فصل: تفسير الآيات رقم (3 - 4)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


سورة القلم

مكية

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏ن‏}‏ اختلفوا فيه فقال ابن عباس‏:‏ هو الحوت الذي على ظهره الأرض‏.‏ وهو قول مجاهد ومقاتل والسدي والكلبي‏.‏

وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال‏:‏ أول ما خلق الله القلم، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة، ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره فتحرك النون فمادت الأرض، فأثبتت بالجبال وإن الجبال لتفخر على الأرض ثم قرأ ابن عباس‏:‏ ‏{‏ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ‏}‏‏.‏

واختلفوا في اسمه، فقال الكلبي ومقاتل‏:‏ ‏[‏اسمه‏]‏ يهموت‏.‏ وقال الواقدي‏:‏ ليوثا‏.‏ وقال كعب‏:‏ لويثا‏.‏ وعن علي‏:‏ اسمه بلهوث‏.‏

وقالت الرواة‏:‏ لما خلق الله الأرض وفتقها بعث من تحت العرش ملكًا فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع فوضعها على عاتقه، إحدى يديه بالمشرق والأخرى بالمغرب، باسطتين قابضتين على الأرضين السبع، حتى ضبطها فلم يكن لقدميه موضع قرار، فأهبط الله عز وجل من الفردوس ثورًا له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة، وجعل قرار قدمي الملك على سنامه، فلم تستقر قدماه فأخذ الله ياقوتة خضراء من أعلى درجة في الفردوس غلظها مسيرة خمسمائة عام فوضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقرت عليها قدماه، وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض، ومنخراه في البحر فهو يتنفس كل يوم نفسًا فإذا تنفس مدَّ البحر وإذا ‏[‏رد‏]‏ نفسه جزر البحر فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار ‏[‏فخلق‏]‏ الله تعالى صخرة كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين فاستقرت قوائم الثور عليها وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه ‏"‏‏[‏يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل‏]‏ فتكن في صخرة‏"‏ ولم يكن للصخرة مستقر، فخلق الله نونًا وهو الحوت العظيم، فوضع الصخرة على ظهره وسائر جسده خال والحوت على البحر، والبحر على متن الريح، والريح على القدرة‏.‏ يقال‏:‏ فكل الدنيا كلها بما عليها حرفان قال لها الجبار‏:‏ ‏[‏جل جلاله‏]‏ كوني فكانت‏.‏

قال كعب الأحبار‏:‏ إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض فوسوس إليه، فقال له‏:‏ أتدري ما على ظهرك يا لوِيثا من الأمم والدواب والشجر والجبال لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك، فهمّ لوِيثا أن يفعل ذلك فبعث الله دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه فعج الحوت إلى الله منها فأذن لها الله فخرجت‏.‏ قال كعب‏:‏ فوالذي نفسي بيده إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن همَّ بشيء من ذلك عادت كما كانت‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ نون آخر حروف الرحمن، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس‏.‏

وقال الحسن وقتادة والضحاك‏:‏ النون الدواة‏.‏

وقيل‏:‏ هو قسم أقسم الله به‏.‏ وقيل‏:‏ فاتحة السورة‏.‏ وقال عطاء‏:‏ افتتاح اسمه نور وناصر‏.‏

وقال محمد بن كعب‏:‏ أقسم الله بنصرته للمؤمنين‏.‏

‏{‏وَالْقَلَم‏}‏ ‏[‏هو‏]‏ الذي كتب الله به الذكر، وهو قلم من نور طوله ما بين السماء والأرض، ويقال‏:‏ أول ما خلق الله القلم ونظر إليه فانشق بنصفين، ثم قال‏:‏ اجرِ بما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى على اللوح المحفوظ بذلك‏.‏ ‏{‏وَمَا يَسْطُرُونَ‏}‏ يكتبون أي ما تكتب الملائكة الحفظة من أعمال بني آدم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2 - 4‏]‏

‏{‏مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ‏(‏2‏)‏ وَإِنَّ لَكَ لأجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ‏(‏3‏)‏ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ‏}‏ ‏[‏هو‏]‏ جواب لقولهم ‏"‏يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون‏"‏ ‏[‏الحجر - 6‏]‏ فأقسم الله بالنون والقلم وما يكتب من الأعمال فقال‏:‏ ‏{‏مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ‏}‏ بنبوة ربك ‏{‏بِمَجْنُونٍ‏}‏ أي‏:‏ إنك لا تكون مجنونا وقد أنعم الله عليك بالنبوة والحكمة‏.‏ وقيل‏:‏ بعصمة ربك‏.‏ وقيل‏:‏ هو كما يقال‏:‏ ما أنت بمجنون ‏[‏والحمد لله‏]‏ وقيل‏:‏ معناه ما أنت بمجنون والنعمة لربك، كقولهم‏:‏ سبحانك اللهم وبحمدك، أي‏:‏ والحمد لك‏.‏

‏{‏وَإِنَّ لَكَ لأجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ‏}‏ أي‏:‏ منقوص ولا مقطوع بصبرك على افترائهم عليك‏.‏

‏{‏وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ‏}‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ دين عظيم لا دين أحب إلي ولا أرضى عندي منه، وهو دين الإسلام‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هو آداب القرآن‏.‏

سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ كان خلقه القرآن‏.‏

وقال قتادة‏:‏ هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه من نهي الله، والمعنى إنك على الخلق الذي أمرك الله به في القرآن‏.‏

وقيل‏:‏ سمى الله خلقه عظيمًا لأنه امتثل تأديب الله إياه بقوله‏:‏ ‏"‏خذ العفو‏"‏ ‏[‏الأعراف - 198‏)‏ الآية‏.‏

وروينا عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق، وتمام محاسن الأفعال‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف ‏[‏حدثنا محمد بن إسماعيل‏]‏ حدثنا أحمد بن سعيد أبو عبد الله، حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه عن أبي إسحاق قال‏:‏ سمعت البراء يقول‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهًا وأحسنهم خَلْقًا ليس بالطويل البائن ولا بالقصير‏.‏

أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني، أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي، أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي، حدثنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي عن ثابت عن أنس بن مالك قال‏:‏ خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أفٍ قطّ ‏[‏وما‏]‏ قال لشيء صنعتُه‏:‏ لِمَ صنعتَه‏؟‏ ولا لشيء تركته‏:‏ لم تركتُه‏؟‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خُلقًا ولا مسست خزًا ‏[‏قط‏]‏ ولا حريرًا ولا شيئًا ‏[‏كان‏]‏ ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شممت مسكًا ولا عطرًا كان أطيب من عَرَقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار، حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى البَرْني، حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سفيان الثوري عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عبد الله بن عمر قال‏:‏ ‏"‏إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا وكان يقول‏:‏ ‏"‏خياركم أحسنكم أخلاقًا‏"‏‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي، أخبرنا أبو العباس الأصم، حدثنا محمد بن هشام بن ملاس، حدثنا مروان الفزاري، حدثنا حميد الطويل، عن أنس أن امرأة عرضت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق من طرق المدينة فقالت‏:‏ يا رسول الله إن لي إليك حاجة فقال‏:‏ يا أم فلان اجلسي في أي سكك المدينة شئت أجلسْ إليك، قال‏:‏ ففعلت فقعد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ‏[‏قضى‏]‏ حاجتها‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل قال‏:‏ ‏[‏حدثنا‏]‏ محمد بن عيسى، حدثنا هشيم، أخبرنا حميد الطويل، حدثنا أنس بن مالك قال‏:‏ إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو محمد بن عبد الرحمن بن أبي شريح، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، حدثنا علي بن الجعد، أخبرنا عمران بن يزيد التغلبي، عن زيد ‏[‏ابن العَمِّي‏]‏ عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صافح الرجل لم ينزع يده من يده ‏[‏حتى يكون هو الذي ينزع يده‏]‏ ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون هو الذي يصرف وجهه ‏[‏عن وجهه‏]‏ ولم ير مقدمًا ركبتيه بين يدي جليس له‏.‏

أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد، أخبرنا أبو القاسم الخزاعي، أخبرنا الهيثم بن كليب، حدثنا أبو عيسى، حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، حدثنا عبيدة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت‏:‏ ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده شيئًا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا ضرب خادمًا ولا امرأة‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني مالك بن إسحاق عن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس قال كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثَّرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال‏:‏ يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك ثم أمر له بعطاء‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا علي بن المديني، حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار، عن ابن أبي مليكة، عن يعلى بن مملك، عن أم الدرداء تحدث عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن أثقل شيء يوضع في ميزان المؤمن يوم القيامة خلق حسن، وإن الله تعالى يبغض الفاحش البذيء‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني، أخبرنا أبو جعفر الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا أبو نعيم، حدثنا داود بن يزيد ‏[‏الأودي‏]‏ سمعت أبي يقول سمعت أبي هريرة يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه‏:‏ ‏"‏أتدرون ما أكثر ما يدخل الناس النار‏؟‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ فإن أكثر ما يدخل الناس النار الأجوفان‏:‏ الفرج والفم، أتدرون ما أكثر ما يدخل الناس الجنة‏؟‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ فإن أكثر ما يدخل الناس الجنة‏:‏ تقوى الله وحسن الخلق‏"‏‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي، حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا محمد بن عبد الله ‏[‏بن عبد‏]‏ الحكم، أخبرنا أبي وشعيب قالا حدثنا الليث عن ‏[‏ابن‏]‏ الهاد عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن عبد الله عن عائشة قالت‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5 - 6‏]‏

‏{‏فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ‏(‏5‏)‏ بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله عز وجل ‏{‏فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ‏}‏ فسترى يا محمد ويرون - يعني أهل مكة - إذا نزل بهم العذاب‏.‏

‏{‏بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ‏}‏ قيل معناه‏:‏ بأيكم المجنون، فـ‏"‏المفتون‏"‏ مفعول بمعنى المصدر، كما يقال‏:‏ ما بفلان مجلود ومعقول، أي جلادة وعقل‏.‏ وهذا معنى قول الضحاك ورواية العوفي عن ابن عباس‏.‏

وقيل الباء بمعنى ‏"‏في‏"‏ مجازة‏:‏ فستبصر ويبصرون في أي الفريقين المجنون في فريقك أم في فريقهم‏؟‏‏.‏

وقيل‏:‏ الباء بمعنى ‏"‏مع‏"‏ و‏"‏المفتون‏"‏ هو الشيطان‏.‏ ‏[‏والمعنى‏:‏ مع أيكم الشيطان‏]‏ مع المؤمنين أم مع الكافرين‏؟‏ وهذا معنى قول مجاهد‏.‏

وقال الآخرون‏:‏ زائدة، معناه‏:‏ أيكم المفتون‏؟‏ أي المجنون الذي فتن بالجنون، وهذا قول قتادة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7 - 13‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏7‏)‏ فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏8‏)‏ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ‏(‏9‏)‏ وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ ‏(‏10‏)‏ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ‏(‏11‏)‏ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ‏(‏12‏)‏ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدِينَ فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ‏}‏، يعني مشركي مكة فإنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه فنهاه أن يطيعهم‏.‏

‏{‏وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ‏}‏ قال‏:‏ الضحاك لو تكفر فيكفرون‏.‏ قال الكلبي‏:‏ لو تلين لهم فيلينون لك‏.‏ قال الحسن‏:‏ لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم‏.‏ قال زيد بن أسلم‏:‏ لو تنافق وترائي فينافقون ويراءون‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ أرادوا أن تعبد آلهتهم مدة ويعبدون الله مدة‏.‏

‏{‏وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ‏}‏ كثير الحلف بالباطل‏.‏ قال ‏[‏مقاتل‏:‏ يعني‏]‏ الوليد بن المغيرة‏.‏ وقيل‏:‏ الأسود بن عبد يغوث‏.‏ وقال عطاء‏:‏ الأخنس بن شريق ‏{‏مَهِينٍ‏}‏ ضعيف حقير‏.‏ قيل‏:‏ هو فعيل من المهانة وهي قلة الرأي والتمييز‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كذاب‏.‏ وهو قريب من الأول لأن الإنسان إنما يكذب لمهانة نفسه عليه‏.‏

‏{‏هَمَّازٍ‏}‏ مغتاب يأكل لحوم الناس بالطعن والغيبة‏.‏ قال الحسن‏:‏ هو الذي يغمز بأخيه في المجلس، كقوله‏:‏ ‏"‏همزة‏"‏ ‏{‏مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ‏}‏ قتَّات يسعى بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم‏.‏

‏{‏مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ‏}‏ بخيل بالمال‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏"‏منَّاع للخير‏"‏ أي للإسلام يمنع ولده وعشيرته عن الإسلام يقول‏:‏ لئن دخل واحد منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبدا ‏{‏مُعْتَدٍ‏}‏ ظلوم يتعدى الحق ‏{‏أَثِيمٍ‏}‏ فاجر‏.‏ ‏{‏عُتُلٍّ‏}‏ العتل‏:‏ الغليظ الجافي‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هو الفاحش الخَلْق السيئ الخُلُق‏.‏ قال الفَّراء‏:‏ هو الشديد الخصومة في الباطل وقال الكلبي‏:‏ هو الشديد في كفره، وكل شديد عند العرب عُتُلِّ، وأصله من العتل وهو الدفع بالعنف‏.‏ قال عبيد بن عمير‏:‏ ‏"‏العُتُل‏"‏ الأكول الشروب القوي الشديد ‏[‏في كفره‏]‏ لا يزن في الميزان شعيرة، يدفع الملك من أولئك سبعين ألفًا في النار دفعة واحدة ‏{‏بَعْدِ ذَلِكَ‏}‏ أي مع ذلك، يريد مع ما وصفناه به ‏{‏زَنِيمٍ‏}‏ وهو الدَّعِي ‏[‏الملصق‏]‏ بالقوم وليس منهم‏.‏ قال عطاء عن ابن عباس‏:‏ يريد مع ‏[‏هذا‏]‏ هو دَعيٌّ في قريش وليس منهم‏.‏ قال مرة الهمداني‏:‏ إنما ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة‏.‏ وقيل‏:‏ ‏"‏الزنيم‏"‏ الذي له زنمة كزنمة الشاة‏.‏

وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية‏:‏ نُعِت فلم يعرف حتى قيل زنيم فعرف، وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها‏.‏

وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ لا نعلم أن الله وصف أحدًا ولا ذكر من عيوبه ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة فألحق به عارًا لا يفارقه في الدنيا والآخرة‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان الواعظ، حدثني أبو محمد بن زنجويه بن محمد، حدثنا علي بن الحسين الهلالي، حدثنا عبد الله بن الوليد العدني عن سفيان، حدثني معبد بن خالد القيسي، عن حارثة بن وهب الخزاعي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ألا أخبركم بأهل الجنة‏؟‏ كلُّ ضعيفٍ متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار كل عُتُلّ جوَّاظ ‏[‏مستكبر‏]‏ ‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ‏}‏ قرأ أبو جعفر وابن عامر وحمزة وأبو بكر ويعقوب‏:‏ ‏"‏أأن‏"‏ بالاستفهام‏.‏ ثم حمزة وأبو بكر يخففان الهمزتين بلا مد ويمد الهمزة الأولى أبو جعفر وابن عامر ويعقوب ويلينون الثانية‏.‏ وقرأ الآخرون بلا استفهام على الخبر، فمن قرأ بالاستفهام فمعناه‏:‏ أَلأنْ كان ذا مالٍ وبنين‏؟‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15 - 17‏]‏

‏{‏إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ‏(‏15‏)‏ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ‏(‏16‏)‏ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ‏}‏ أي جعل مجازاة النعم التي خولها من البنين والمال الكفر بآياتنا‏.‏ وقيل‏:‏ معناه أَلأنَ كان ذا مال وبنين ‏[‏تطيعه‏]‏‏.‏

ومن قرأ على الخبر فمعناه‏:‏ لا تطع كل حلاف مهين لأن ‏{‏كان ذا مال وبنين‏}‏ أي‏:‏ لا تطعه لماله وبنيه ‏"‏إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين‏"‏‏.‏

ثم أوعده فقال‏:‏ ‏{‏سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ‏}‏ و‏"‏الخرطوم‏"‏‏:‏ الأنف‏.‏ قال أبو العالية ومجاهد‏:‏ أي نسود وجهه، فنجعل له علمًا في الآخرة يعرف به، وهو سواد الوجه‏.‏

قال الفرَّاء‏:‏ خص الخرطوم بالسمة فإنه في مذهب الوجه لأن بعض الشيء يعبر به عن كله‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ سنخطمه بالسيف، وقد فعل ذلك يوم بدر وقال قتادة‏:‏ سنلحق به شيئًا لا يفارقه‏.‏

قال القتيبي تقول العرب للرجل سب الرجل سبة قبيحة‏:‏ قد وسمّه ميسم سوء‏.‏ يريد‏:‏ ألصق به عارًا لا يفارقه، كما أن السمة لا ينمحي ولا يعفو أثرها وقد ألحق الله بما ذكر من عيوبه عارًا لا يفارقه في الدنيا والآخرة، كالوسم على الخرطوم‏.‏

وقال الضحاك والكسائي‏:‏ سنكويه على وجهه‏.‏

‏{‏إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ‏}‏ يعني اختبرنا أهل مكة بالقحط والجوع ‏{‏كَمَا بَلَوْنَا‏}‏ ابتلينا ‏{‏أَصْحَابُ الْجَنَّةِ‏}‏ روى محمد بن مروان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس‏:‏ في قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة‏"‏ قال‏:‏ كان بستان باليمن يقال له الضّروان دون صنعاء بفرسخين، يطؤه أهل الطريق، كان غرسه قوم من أهل الصلاة، وكان لرجل فمات فورثه ثلاثة بنين له، وكان يكون للمساكين إذا صرموا نخلهم كل شيء تعداه المنجل فلم يجزه وإذا طرح من فوق النخل إلى البساط فكل شيء يسقط على البساط فهو أيضا للمساكين، وإذا حصدوا زرعهم فكل شيء تعداه المنجل فهو للمساكين وإذا داسوه كان لهم كل شيء ينتثر أيضا فلما مات الأب وورثه هؤلاء الإخوة ‏[‏عن أبيهم‏]‏ فقالوا‏:‏ والله إن المال لقليل، وإن العيال لكثير وإنما كان هذا الأمر يفعل إذ كان المال كثيرًا والعيال قليلا فأما إذا قلَّ المال وكثر العيال فإنا لا نستطيع أن نفعل هذا فتحالفوا بينهم يومًا ليغدون غدوة قبل خروج الناس فليصرِمُنَّ نخلهم ولم يستثنوا يقول‏:‏ لم يقولوا إن شاء الله فغدا القوم بسدفة من الليل إلى جنتهم ليصرموها قبل أن يخرج المساكين، فرأوها مسودة وقد طاف عليها من الليل طائف من العذاب فأحرقها فأصبحت كالصريم فذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِذْ أَقْسَمُوا‏}‏ حلفوا ‏{‏لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ‏}‏1 ليَجُذُّنُها وليقطعن ثمرها إذا أصبحوا قبل أن يعلم المساكينُ

تفسير الآيات رقم ‏[‏18 - 22‏]‏

‏{‏وَلا يَسْتَثْنُونَ ‏(‏18‏)‏ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ‏(‏19‏)‏ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ‏(‏20‏)‏ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ ‏(‏21‏)‏ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏وَلا يَسْتَثْنُونَ‏}‏ ولا يقولون إن شاء الله‏.‏

‏{‏فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ‏}‏ عذاب ‏{‏مِنْ رَبِّكَ‏}‏ ليلا ولا يكون الطائف إلا بالليل، وكان ذلك الطائف نارًا نزلت من السماء فأحرقتها ‏{‏وَهُمْ نَائِمُونَ‏}‏

‏{‏فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ‏}‏ كالليل المظلم الأسود‏.‏ قال الحسن‏:‏ أي صرم منها الخير فليس فيها شيء‏.‏

وقال الأخفش‏:‏ كالصبح الصريم من الليل وأصل ‏"‏الصريم‏"‏ المصروم، مثل‏:‏ قتيل ومقتول، وكل شيء قطع فهو صريم ‏[‏فالليل صريم‏]‏ والصبح صريم لأن كل واحد منهما ينصرم عن صاحبه‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ كالرماد الأسود بلغة خزيمة‏.‏

‏{‏فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ‏}‏ نادى بعضهم بعضا لما أصبحوا‏.‏

‏{‏أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ‏}‏ يعني الثمار والزروع والأعناب ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ‏}‏ قاطعين للنخل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23 - 28‏]‏

‏{‏فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ‏(‏23‏)‏ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ‏(‏24‏)‏ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ ‏(‏25‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ‏(‏26‏)‏ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ‏(‏27‏)‏ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏فَانْطَلَقُوا‏}‏ مشوا إليها ‏{‏وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنَّ لا يَدخُلَنَّهَا الْيَومَ عَلَيكُم مِّسكِينٌ‏}‏ يتسارون، يقول بعضهم لبعض سرًا ‏{‏وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ‏}‏‏"‏الحرد‏"‏ في اللغة يكون بمعنى القصد والمنع والغضب، قال الحسن وقتادة وأبو العالية‏:‏ على جد وجهد‏.‏

وقال القرظي ومجاهد وعكرمة‏:‏ على أمر مجتمع عليه قد أسسوه بينهم‏.‏ وهذا على معنى القصد لأن القاصد ‏[‏إلى الشيء‏]‏ جاد مجمع على الأمر‏.‏

وقال أبو عبيدة والقتيبي‏:‏ غدوا ونيتهم على منع المساكين، يقال‏:‏ حارَدتِ السَّنة، إذا لم يكن لها مطر وحاردت الناقة إذا لم يكن لها لبن‏.‏

وقال الشعبي وسفيان‏:‏ على حنق وغضب من المساكين‏.‏

وعن ابن عباس قال‏:‏ على قدرة ‏{‏قَادِرِينَ‏}‏ عند أنفسهم على جنتهم وثمارها لا يحول بينها وبينهم أحد‏.‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ‏}‏ أي لما رأوا الجنة محترقة قالوا‏:‏ إنا لمخطئون الطريق، أضللنا مكان جنتنا ليست هذه بجنتنا‏.‏ فقال بعضهم‏:‏ ‏{‏بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ‏}‏ حرمنا خيرها ونفعها بمنعنا المساكين وتركنا الاستثناء‏.‏

‏{‏قَالَ أَوْسَطُهُمْ‏}‏ أعدلهم وأعقلهم وأفضلهم‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ‏}‏ هلا تستثنون أنكر عليهم ترك الاستثناء في قولهم‏:‏ ‏"‏ليصرمنها مصبحين‏"‏ وسمي الاستثناء تسبيحًا لأنه تعظيم لله وإقرار بأنه لا يقدر أحد على شيء إلا بمشيئته‏.‏

وقال أبو صالح‏:‏ كان استثناؤهم سبحان الله، وقيل‏:‏ هلا تسبحون الله وتقولون‏:‏ سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم‏.‏ وقيل‏:‏ هلا تستغفرونه من فعلكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29 - 38‏]‏

‏{‏قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏29‏)‏ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ ‏(‏30‏)‏ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ‏(‏31‏)‏ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ ‏(‏32‏)‏ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏33‏)‏ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏34‏)‏ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ‏(‏35‏)‏ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ‏(‏36‏)‏ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ‏(‏37‏)‏ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا‏}‏ نزهوه عن أن يكون ظالمًا فيما فعل وأقروا على أنفسهم بالظلم فقالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ‏}‏ بمنعنا المساكين‏.‏

‏{‏فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ‏}‏ يلوم بعضهم بعضًا في منع المساكين حقوقهم، ونادوا على أنفسهم بالويل‏:‏ ‏{‏قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ‏}‏ في منعنا حق الفقراء‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ طغينا نِعَمَ الله فلم نشكرها ولم نصنع ما صنع آباؤنا من قبل‏.‏

ثم رجعوا إلى أنفسهم فقالوا‏:‏ ‏{‏عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ‏}‏ قال عبد الله بن مسعود‏:‏ بلغني أن القوم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها الحيوان فيها عنب يحمل البغل منه عنقودًا واحدًا‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ الْعَذَابُ‏}‏ أي‏:‏ كفعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا وخالف أمرنا ‏{‏وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ‏}‏ ثم أخبر بما عنده للمتقين فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ‏}‏ فقال المشركون‏:‏ إنا نعطى في الآخرة أفضل مما تعطون فقال الله تكذيبا لهم‏:‏ ‏{‏أَفَنَجعَلُ المُسلِمِينَ كَالمجُرِمِينَ مَا لَكُم كَيفَ تَحكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ‏}‏ نزل من عند الله ‏{‏فِيهِ‏}‏ في هذا الكتاب ‏{‏تَدْرُسُونَ‏}‏ تقرءون‏.‏

‏{‏إِنَّ لَكُمْ فِيهِ‏}‏ في ذلك الكتاب ‏{‏لَمَا تَخَيَّرُونَ‏}‏ تختارون وتشتهون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39 - 42‏]‏

‏{‏أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ‏(‏39‏)‏ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ ‏(‏40‏)‏ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ‏(‏41‏)‏ يَوْمَ يُكْشَفُ عنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ‏}‏ عهود ومواثيق ‏{‏عَلَيْنَا بَالِغَةٌ‏}‏ مؤكدة عاهدناكم عليها فاستوثقتم بها منا فلا ينقطع عهدكم ‏{‏إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ‏}‏ في ذلك العهد ‏{‏لَمَا تَحْكُمُونَ‏}‏ لأنفسكم من الخير والكرامة عند الله‏.‏ وكسر ‏"‏إن‏"‏ في الآيتين لدخول اللام في خبرهما‏.‏ ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏{‏سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ‏}‏ كفيل لهم بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين‏؟‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ‏}‏ أي عندهم شركاء لله أرباب تفعل هذا‏.‏ وقيل‏:‏ شهداء يشهدون لهم بصدق ما يدعونه‏.‏ ‏{‏فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ‏}‏

‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عنْ سَاقٍ‏}‏ قيل‏:‏ ‏"‏يوم‏"‏ ظرف لقوله فليأتوا بشركائهم، أي‏:‏ فليأتوا بها في ذلك اليوم لتنفعهم وتشفع لهم ‏"‏يوم يكشف عن ساق‏"‏ قيل‏:‏ عن أمر فظيع شديد، قال ابن عباس‏:‏ هو أشد ساعة في القيامة‏.‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ ‏"‏يوم يكشف عن ساق‏"‏ عن شدة الأمر‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ تقول العرب للرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج فيه إلى الجد ومقاساة الشدة‏:‏ شمر عن ساقه ويقال‏:‏ إذا اشتد الأمر في الحرب‏:‏ كشفت الحرب عن ساق‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن ‏[‏سفيان‏]‏ حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثني سويد بن سعيد، حدثني جعفر، حدثني حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أناسا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة‏؟‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏نعم هل تُضَارُّون في رؤيةِ الشمس بالظهيرة صَحْوًا ليس معها سحاب‏؟‏ وهل تُضَارُّون في رؤية القمر ليلة البدر صحوًا ليس فيها سحاب‏؟‏ قالوا‏:‏ لا يا رسول الله قال‏:‏ ما تُضَارُّون في رؤية الله يوم القيامة إلا كما تُضَارُّون في رؤية أحدهما إذا كان يوم القيامة أذَّن مُؤَذِّنٌ لِتَتْبَع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد الله من بَرِّ وفَاجرٍ وغُيَّرِ أهلِ الكِتاب فَتُدعى اليهود، فيقال لهم‏:‏ ما كنتم تعبدون‏؟‏ قالوا‏:‏ كنا نعبد عزير ابن الله فيقال كذبتم ما اتخذ الله من صاحبةٍ ولا ولدٍ، فماذا تبغون‏؟‏ فقالوا‏:‏ عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار إليهم‏:‏ ألا تَرِدُون‏؟‏ فيحشرون إلى النار كأنها سرابٌ يَحْطِمُ بعضُها بعضًا فيتساقطون في النار‏.‏ ثم تدعى النصارى فيقال لهم‏:‏ ما كنتم تعبدون‏؟‏ قالوا‏:‏ كنا نعبد المسيحَ ابن الله، فيقال لهم‏:‏ ما اتخذ الله من صاحبةٍ ولا ولدٍ، فيقال لهم‏:‏ ماذا تبغون‏؟‏ فيقولون‏:‏ عطشنا يا رَّبنا فاسقِنا فيشار إليهم‏:‏ ألا تَرِدُون‏؟‏ فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يَحْطِم بعضُها بعضًا فيتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر، أتاهم ربُّ العالمين في أدنى صورة من التي رَأَوْه فيها قال‏:‏ فماذا تنتظرون‏؟‏ لِتْتبَع كل أمة ما كانت تعبُدُ قالوا يا ربنا فارَقْنا الناسَ في الدنيا أفقرَ ما كنا إليهم ولم نصاحبْهم‏.‏ فيقول‏:‏ أنا ربكم، فيقولون‏:‏ نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله شيئًا مرتين أو ثلاثًا حتى إن بعضَهم ليَكاد أن ينقلب، فيقول‏:‏ هل بينكم وبينه آيةٌ تعرفونه بها فيقولون‏:‏ نعم فيكشف عن ساقٍ فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أَذِنَ الله له بالسجود فلا يبقى مَنْ كان يسجد نفاقًا ورياءً إلا جعل الله ظهْرَه طبقةً واحدةً كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه ثم يرفعون رءوسَهم وقد تحوَّل في الصورة التي رأوه فيها أول مرة فقال‏:‏ أنا ربكم‏.‏ فيقولون‏:‏ أنت ربنا ثم يُضْرَب الجسر على جهنم وتحلّ الشفاعة، ويقولون‏:‏ اللهم سلِّم سلم، قيل يا رسول الله وما الجسر‏؟‏ قال‏:‏ دحضٌ مُزِلَّةٌ فيه خطاطيف وكلاليب وحسكةٌ يكون بنجد فيها شويكة يقال لها السَّعْدان، فيمر المؤمنون كطْرفِ العين وكالبرقِ وكالريحِ وكالطيرِ وكأجاويدِ الخيلِ والركابِ فناجٍ مُسَلَّمٌ ومخدوشٌ مُرْسَل ومكردسٌ في نار جهنم، حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشدَّ لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون‏:‏ ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون، فيقال لهم‏:‏ أَخْرِجُوا من عرفتم فتُحرَّم صورهم على النار فيخرجون خلقًا كثيرًا قد أخذتِ النار إلى نصف ساقه وإلى ركبتيه، ثم يقولون‏:‏ ربنا ما بقي فيها أحدٌ مِمَّنْ أمرتَنا به، فيقول‏:‏ ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون‏:‏ ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به، ثم يقول‏:‏ ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثال نصف دينارٍ من خيرٍ فأخرجوه فيخرجون خلقًا كثيرًا ثم يقولون‏:‏ ربنا لم نذرْ فيها ممن أمرتنا به أحدًا ثم يقول‏:‏ ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرةٍ من خيرٍ فأخرجوه فيخرجون خلقًا كثيرًا ثم يقولون‏:‏ ربنا لم نذرْ فيها أحدًا فيه خير ممن أمرتنا به وكان أبو سعيد الخدري يقول‏:‏ إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم‏:‏ ‏"‏إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا‏"‏ ‏[‏النساء - 40‏]‏ فيقول الله‏:‏ شفعت الملائكة، وشفع النبيون وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط قد عادوا حممًا فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحِبَّة في حَمِيل السيل، ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون منها إلى الشمس أصيفر وأخيضر، وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض‏؟‏ قال‏:‏ فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله من النار الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه، ثم يقول‏:‏ ‏"‏ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون ربنا‏:‏ أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحدًا من العالمين، فيقول‏:‏ لكم عندي أفضل من هذا فيقولون‏:‏ يا ربنا أي شيء أفضل من هذا‏؟‏ فيقول‏:‏ رضائي فلا أسخط عليكم بعده أبدا‏"‏‏.‏

وروى محمد بن إسماعيل هذا الحديث عن يحيى بن بكير عن الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم بهذا المعنى أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا آدم، حدثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياءً وسمعةً، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا‏"‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ‏}‏ يعني‏:‏ الكفار والمنافقين تصير أصلابهم كصياصي البقر، فلا يستطيعون السجود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ‏}‏ وذلك أن المؤمنين يرفعون رءوسهم من السجود ووجوههم أشد بياضا من الثلج وتسود وجوه الكافرين والمنافقين ‏{‏تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ‏}‏ يغشاهم ذل الندامة والحسرة ‏{‏وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ‏}‏ قال إبراهيم التيمي‏:‏ يعني إلى الصلاة المكتوبة بالأذان والإقامة وقال سعيد بن جبير‏:‏ كانوا يسمعون حي على الفلاح فلا يجيبون ‏{‏وَهُمْ سَالِمُونَ‏}‏ أصحاء فلا يأتونه قال كعب الأحبار‏:‏ والله ما نزلت هذه الآية إلا عن الذين يتخلفون عن الجماعات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44 - 50‏]‏

‏{‏فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ‏(‏44‏)‏ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ‏(‏45‏)‏ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ‏(‏46‏)‏ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ‏(‏47‏)‏ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ‏(‏48‏)‏ لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ‏(‏49‏)‏ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ‏}‏ أي فدعني والمكذبين بالقرآن وخل بيني وبينهم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ معناه لا تشغل قلبك بهم ‏[‏كِلْهُم‏]‏ إليَّ فإني ‏[‏أكفيكهم‏]‏ ‏[‏قال ومثله‏:‏ ‏"‏ذرني ومن خلقت وحيدًا‏"‏ معناه في اللغة‏:‏ لا تشغل قلبك به وكله إليَّ فإني أجازيه‏.‏ ومثله قول الرجل‏:‏ ذرني وإياه، ليس أنه منعه منه ولكن تأويله كِلْه، فإني أكفيك أمره‏]‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَنَسْتَدْرِجُهُمْ‏}‏ سنأخذهم بالعذاب ‏{‏مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ‏}‏، فعذبوا يوم بدر‏.‏ ‏{‏وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيدِي مَتِينٌ أَمْ تَسأَلُهُمْ أَجرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثقَلُونَ أَمْ عِندَهُمُ الغَيبُ فَهُمْ يَكتُبُونَ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ‏}‏ اصبر على أذاهم لقضاء ربك ‏{‏وَلا تَكُنْ‏}‏ في الضجر والعجلة ‏{‏كَصَاحِبِ الْحُوتِ‏}‏ وهو يونس بن متى ‏{‏إِذْ نَادَى‏}‏ ربه ‏[‏في‏]‏ بطن الحوت ‏{‏وَهُوَ مَكْظُومٌ‏}‏ مملوء غمًا‏.‏

‏{‏لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ‏}‏ أدركته ‏{‏نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ‏}‏ حين رحمه وتاب عليه ‏{‏لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ‏}‏ لطرح بالفضاء من بطن الحوت ‏{‏وَهُوَ مَذْمُومٌ‏}‏ يذم ويلام بالذنب ‏[‏يذنبه‏]‏‏.‏

‏{‏فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ‏}‏ اصطفاه ‏{‏فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51 - 52‏]‏

‏{‏وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ‏(‏51‏)‏ وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ‏}‏ وذلك أن الكفار أرادوا أن يصيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين فنظر إليه قومٌ من قريش وقالوا‏:‏ ما رأينا مثله ولا مثل حججه‏.‏

وقيل‏:‏ كانت العين في بني أسد حتى كانت الناقة والبقرة السمينة تمر بأحدهم فيعاينها ثم يقول‏:‏ يا جارية خذي المكتل والدراهم فأتينا بشيء من لحم هذه فما تبرح حتى تقع بالموت فتنحر‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ كان رجل من العرب يمكث لا يأكل يومين أو ثلاثًا ثم يرفع جانب خبائه فتمر به الإبل فيقول‏:‏ لم أر كاليوم إبلا ولا غنمًا أحسن من هذه، فما تذهب إلا قليلا حتى تسقط منها طائفة وعدة، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين ويفعل به مثل ذلك، فعصم الله نبيه وأنزل‏:‏ ‏"‏وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم‏"‏ أي ويكاد ودخلت اللام في ‏"‏ليزلقونك‏"‏ لمكان ‏"‏إن‏"‏ وقرأ أهل المدينة‏:‏ ‏"‏لَيزْلقونك‏"‏ بفتح الياء، والآخرون بضمها وهما لغتان، يقال‏:‏ زلقَه يَزلُقه زلقًا وأَزْلَقهُ يزلُقه إزلاقًا‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ معناه‏:‏ ينفذونك، ويقال‏:‏ زلق السهم‏:‏ إذا أنفذ‏.‏

قال السدي‏:‏ يصيبونك بعيونهم‏.‏ قال النضير بن شميل‏:‏ يعينونك‏.‏ وقيل‏:‏ يزيلونك‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ يصرعونك‏.‏ وقيل‏:‏ يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ ليس يريد أنهم يصيبونك بأعينهم كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه، وإنما أراد أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن نظرًا شديدًا بالعداوة والبغضاء، يكاد يسقطك‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ يعني من شدة عداوتهم يكادون بنظرهم نظر البغضاء أن يصرعوك‏.‏ وهذا مستعمل في ‏[‏كلام العرب‏]‏ يقول القائل‏:‏ نَظر إليَّ نظرًا يكاد يصرعني، ونظرا يكاد يأكلني‏.‏ يدل على صحة هذا المعنى‏:‏ أنه قرن هذا النظر بسماع القرآن، وهو قوله‏:‏ ‏{‏لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ‏}‏ وهم كانوا يكرهون ذلك أشد الكراهية فيحدون إليه النظر بالبغضاء ‏{‏وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ‏}‏ أي ينسبونه إلى الجنون إذا سمعوه يقرأ القرآن‏.‏ فقال الله تعالى‏:‏

‏{‏وَمَا هُوَ‏}‏ يعني القرآن ‏{‏إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ موعظة للمؤمنين‏.‏ قال الحسن‏:‏ دواء إصابة العين أن يقرأ الإنسان هذه الآية‏.‏

أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان، أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال حدثنا أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏العين حق‏"‏ ونهى عن الوشم‏.‏

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، حدثنا السيد أبو الحسن محمد بن الحسين بن داود العلوي، أخبرنا أبو نصر بن محمد بن حمدويه بن سهل المروزي، حدثنا محمود ‏[‏بن آدم المروزي‏]‏ حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عروة بن عامر، عن عبيد بن رفاعة الزرقي أن أسماء بنت عميس قالت‏:‏ يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم فلو كان شيء يسبق القضاء لسبقته العين‏"‏‏.‏

سورة الحاقة

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 5‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏الْحَاقَّةُ ‏(‏1‏)‏ مَا الْحَاقَّةُ ‏(‏2‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ‏(‏3‏)‏ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ ‏(‏4‏)‏ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏الْحَاقَّةُ‏}‏ يعني القيامةُ سميت حاقة لأنها حقت فلا كاذبة لها‏.‏ وقيل لأن فيها حواق الأمور وحقائقها ولأن فيها يحق الجزاء على الأعمال، أي يجب يقال‏:‏ حق عليه الشيء إذا وجب يحق ‏[‏حقوقا‏]‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين‏"‏ ‏[‏الزمر - 71‏]‏ قال الكسائي‏:‏ ‏"‏الحاقة‏"‏ يوم الحق‏.‏ ‏{‏مَا الْحَاقَّةُ‏}‏ هذا استفهام معناه التفخيم لشأنها كما يقال‏:‏ زيد ما زيد على التعظيم لشأنه‏.‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ‏}‏ أي أنك لا تعلمها إذ لم تعاينها ولم تر ما فيها من الأهوال‏.‏ ‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ‏}‏ قال ابن عباس وقتادة‏:‏ بالقيامة سميت قارعة لأنها تقرع قلوب العباد بالمخافة‏.‏ وقيل‏:‏ كذبت بالعذاب الذي أوعدهم نبيهم حتى نزل بهم فقرع قلوبهم‏.‏ ‏{‏فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ‏}‏ أي بطغيانهم وكفرهم‏.‏ قيل‏:‏ هي مصدر، وقيل‏:‏ نعت أي بفعلهم الطاغية وهذا معنى قول مجاهد، كما قال‏:‏ ‏"‏كذبت ثمود بطغواها‏"‏ ‏[‏الشمس - 11‏]‏ وقال قتادة‏:‏ بالصيحة الطاغية، وهي التي جاوزت مقادير الصياح فأهلكتهم‏.‏ وقيل‏:‏ طغَت على الخُزَّان ‏[‏فلم يكن لهم عليها سبيل ولم يعرفوا كم خرج منها‏]‏ كما طغى الماء على قوم نوح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6 - 11‏]‏

‏{‏وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ‏(‏6‏)‏ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ‏(‏7‏)‏ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ‏(‏8‏)‏ وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ ‏(‏9‏)‏ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً ‏(‏10‏)‏ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ‏}‏ عتت على خُزَّانها فلم تطعهم ولم يكن لهم عليها سبيل، وجاوزت المقدار فلم يعرفوا كم خرج منها‏.‏ ‏{‏سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ‏}‏ أرسلها عليهم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ سلطها عليهم ‏{‏سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ‏}‏ قال وهب‏:‏ هي الأيام التي تسميها العرب أيام العجوز، ذات برد ورياح شديدة‏.‏ قيل‏:‏ سميت عجوزًا لأنها في عجز الشتاء‏.‏ وقيل‏:‏ سميت بذلك لأن عجوزًا من قوم عاد دخلت سربًا فتبعتها الريح، فقتلتها اليوم الثامن من نزول العذاب وانقطع العذاب ‏{‏حُسُومًا‏}‏ قال مجاهد وقتادة‏:‏ متتابعة ليس لها فترة، فعلى هذا فهو من حسم الكَيّ وهو أن يتابع على موضع الداء بالمكواة حتى يبرأ، ثم قيل لكل شيء توبع‏:‏ حاسم وجمعه حسوم، مثل شاهد وشهود، وقال الكلبي ومقاتل‏:‏ حسومًا دائمة‏.‏ وقال النضر بن شميل‏:‏ حسمتهم قطعتهم وأهلكتهم، والحسم‏:‏ القطع والمنع ومنه حسم الداء‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ‏[‏الذي توجبه الآية فعلى معنى‏]‏ تحسمهم حسوما تفنيهم وتذهبهم‏.‏ وقال عطية‏:‏ حسومًا كأنها حسمت الخير عن أهلها ‏{‏فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا‏}‏ أي في تلك الليالي والأيام ‏{‏صَرْعَى‏}‏ هلكى جمع صريع ‏{‏كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ‏}‏ ساقطة، وقيل‏:‏ خالية الأجواف‏.‏ ‏{‏فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ‏}‏ أي من نفس باقية، يعني‏:‏ لم يبق منهم أحد‏.‏ ‏{‏وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ‏}‏ قرأ أهل البصرة والكسائي بكسر القاف وفتح الباء، أي ومن معه من جنوده وأتباعه، وقرأ الآخرون بفتح القاف وسكون الباء، أي ومن قبله من الأمم الكافرة ‏{‏وَالْمُؤْتَفِكَاتُ‏}‏ أي‏:‏ قرى قوم لوط، يريد‏:‏ أهل المؤتفكات‏.‏ وقيل يريد الأمم الذين ائتفكوا بخطيئتهم، أي أهلكوا بذنوبهم ‏{‏بِالْخَاطِئَةِ‏}‏ أي بالخطيئة والمعصية وهي الشرك‏.‏ ‏{‏فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ‏}‏ يعني لوطًا وموسى ‏{‏فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً‏}‏ نامية‏.‏ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ شديدة‏.‏ وقيل‏:‏ زائدة على عذاب الأمم‏.‏ ‏{‏إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ‏}‏ أي عتا وجاوز حده حتى علا على كل شيء وارتفع فوقه، يعني زمن نوح عليه السلام ‏{‏حَمَلْنَاكُمْ‏}‏ أي حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم ‏{‏فِي الْجَارِيَةِ‏}‏ في السفينة التي تجري في الماء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12 - 17‏]‏

‏{‏لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ‏(‏12‏)‏ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ‏(‏13‏)‏ وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ‏(‏14‏)‏ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ‏(‏15‏)‏ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ‏(‏16‏)‏ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏لِنَجْعَلَهَا‏}‏ أي لنجعل تلك الفعلة التي فعلنا مِنْ إِغْراق قوم نوح ونجاة من حملنا معه ‏{‏لَكُمْ تَذْكِرَةً‏}‏ عبرة وموعظة ‏{‏وَتَعِيَهَا‏}‏ قرأ القواس عن ابن كثير وسليم عن حمزة باختلاس العين، وقرأ الآخرون بكسرها أي تحفظها ‏{‏أُذُنٌ وَاعِيَةٌ‏}‏ أي‏:‏ حافظة لما جاء من عند الله‏.‏ قال قتادة‏:‏ ‏[‏أذن‏]‏ سمعت وعقلت ما سمعت‏.‏ قال الفَّراء‏:‏ لتحفظها كل أذن فتكون عبرة وموعظة لمن يأتي بعد‏.‏ ‏{‏فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ‏}‏ وهي النفخة الأولى‏.‏ ‏{‏وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ‏}‏ رفعت من أماكنها ‏{‏فَدُكَّتَا‏}‏ كسرتا ‏{‏دَكَّةً‏}‏ كسرة ‏{‏وَاحِدَةً‏}‏ فصارتا هباءً ‏[‏منثورًا‏]‏‏.‏ ‏{‏فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ‏}‏ قامت القيامة‏.‏ ‏{‏وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ‏}‏ ضعيفة‏.‏ قال الفراء‏:‏ وَهْيُها‏:‏ تشُّقُقها‏.‏ ‏{‏وَالْمَلَكُ‏}‏ يعني الملائكة ‏{‏عَلَى أَرْجَائِهَا‏}‏ نواحيها وأقطارها ما لم ينشق منها واحدها‏:‏ ‏"‏رجا‏"‏ مقصورًا وتثنيته رَجَوَان‏.‏ قال الضحاك‏:‏ تكون الملائكة على حافتها حتى يأمرهم الرب فينزلون فيحيطون بالأرض ومن عليها ‏{‏وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ‏}‏ أي فوق رءوسهم يعني الحملة ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ يوم القيامة ‏{‏ثَمَانِيَةٌ‏}‏ أي ثمانية أملاك‏.‏

جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏إنهم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة أخرى، فكانوا ثمانية على صورة الأوعال ما بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء‏"‏‏.‏

وجاء في الحديث‏:‏ ‏"‏لكل ملك منهم وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو بكر بن الهيثم الترابي، أخبرنا أبو الفضل محمد بن الحسين الحدادي، أخبرنا محمد بن يحيى الخالدي، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ‏[‏الحنظلي‏]‏ حدثنا عبد الرزاق، حدثنا يحيى بن العلاء، عن عمه شعيب بن خالد، حدثنا سماك بن حرب، عن عبد الله بن عميرة، عن العباس بن عبد المطلب قال‏:‏ كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم بالبطحاء فمرت سحابة فقال‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أتدرون ما هذا‏؟‏ قلنا‏:‏ السحاب‏.‏ قال‏:‏ والمزن‏؟‏ قلنا‏:‏ والمزن، قال‏:‏ والعنان‏؟‏ فسكتنا فقال‏:‏ هل تدرون كم بين السماء والأرض‏؟‏ قلنا‏:‏ الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ بينهما مسيرة خمسمائة سنة، وبين كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكذلك غلظ كل سماء خمسمائة سنة، وفوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين السماء والأرض ‏[‏ثم بين ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهن وركبهن كما بين السماء والأرض‏]‏ ثم فوق ذلك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض والله تعالى فوق ذلك، ليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء‏"‏‏.‏

ويروى هذا عن عبد الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس عن العباس‏.‏

وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏"‏فوقهم يومئذ ثمانية‏"‏ أي‏:‏ ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18 - 23‏]‏

‏{‏يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ‏(‏18‏)‏ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ‏(‏19‏)‏ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ ‏(‏20‏)‏ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ‏(‏21‏)‏ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ‏(‏22‏)‏ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ‏}‏ على الله ‏{‏لا تَخْفَى‏}‏ قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏"‏لا يخفى‏"‏ بالياء، وقرأ الآخرون بالتاء ‏{‏مِنْكُمْ خَافِيَةٌ‏}‏ أي فِعْلة خافية‏.‏ قال الكلبي‏:‏ لا يخفى على الله منكم شيء‏.‏ قال أبو موسى‏:‏ يعرض الناس ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما العرضة الثالثة فعندها تطاير الصحف فآخذ بيمينه وآخذ بشماله وذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ‏}‏ تعالوا اقرءوا كتابيه الهاء في ‏"‏كتابيه‏"‏ هاء الوقف‏.‏ ‏{‏إِنِّي ظَنَنْتُ‏}‏ علمت وأيقنت ‏{‏أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ‏}‏ أي‏:‏ ‏[‏أني‏]‏ أحاسب في الآخرة‏.‏ ‏{‏فَهُوَ فِي عِيشَةٍ‏}‏ حالة من العيش ‏{‏رَاضِيَة‏}‏ مرضية كقوله‏:‏ ‏"‏ماء دافق‏"‏ ‏[‏الطارق - 6‏]‏ يريد‏:‏ يرضاها بأن لقي الثواب وأمن العقاب‏.‏ ‏{‏فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ‏}‏ رفيعة‏.‏ ‏{‏قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ‏}‏ ثمارها قريبة لمن يتناولها ‏[‏في كل أحواله ينالها‏]‏ قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا يقطعون كيف شاءوا‏.‏ ويقال لهم‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24 - 32‏]‏

‏{‏كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ ‏(‏24‏)‏ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ‏(‏25‏)‏ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ‏(‏26‏)‏ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ‏(‏27‏)‏ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ‏(‏28‏)‏ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ‏(‏29‏)‏ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ‏(‏30‏)‏ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ‏(‏31‏)‏ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ‏}‏ قدمتم لآخرتكم من الأعمال الصالحة ‏{‏فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ‏}‏ الماضية يريد أيام الدنيا‏.‏ ‏{‏وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ‏}‏ قال ابن السائب‏:‏ تُلْوَى يده اليسرى ‏[‏من صدره‏]‏ خلف ظهره ثم يعطى كتابه‏.‏ وقيل‏:‏ تنزع يده اليسرى من صدره إلى خلف ظهره ثم يعطى كتابه؛ ‏{‏فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَم أَدرِ مَا حِسَابِيَه‏}‏ يتمنى أنه لم يؤت كتابه لما يرى فيه من قبائح أعماله‏.‏ ‏{‏يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ‏}‏ يقول‏:‏ يا ليت الموتة التي متها في الدنيا كانت القاضية الفارغة من كل ما بعدها والقاطعة للحياة، فلم أحيَ بعدها‏.‏ و‏"‏القاضية‏"‏ موت لا حياة بعده يتمنى أنه لم يبعث للحساب‏.‏ قال قتادة‏:‏ يتمنى الموت ولم يكن عنده في الدنيا شيء أكره من الموت‏.‏ ‏{‏مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ‏}‏ لم يدفع عني من عذاب الله شيئًا‏.‏ ‏{‏هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ‏}‏ ضلت عني حجتي، عن أكثر المفسرين‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ زال عني ملكي وقوتي‏.‏ قال مقاتل‏:‏ يعني حين شهدت عليه الجوارح بالشرك، يقول الله لخزنة جهنم‏:‏ ‏{‏خُذُوهُ فَغُلُّوهُ‏}‏ اجمعوا يده إلى عنقه‏.‏ ‏{‏ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ‏}‏ أي‏:‏ أدخِلوه الجحيم‏.‏ ‏{‏ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ‏}‏ فأدخلوه فيها‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ سبعون ذراعا بذراع المَلكَ، فتدخل في دبره وتخرج من منخره‏.‏ وقيل‏:‏ تدخل في فيه وتخرج من دبره‏.‏ وقال نوف البكالي‏:‏ سبعون ذراعا كل ذراع سبعون باعًا كل باع أبعد مما بينك وبين مكة، وكان في رحبة الكوفة وقال سفيان‏:‏ كل ذراع سبعون ذراعا‏.‏ قال الحسن‏:‏ الله أعلم أي ذراع هو‏.‏

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث، أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله بن محمود، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن سعيد بن يزيد، عن أبي السمح، عن عيسى بن هلال الصدفي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لو أن ‏[‏رضاضة‏]‏ مثل هذه - وأشار إلى مثل الجمجمة - أرسلت من السماء إلى الأرض، وهي مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفًا الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها‏"‏‏.‏

وعن كعب قال‏:‏ لو جمع حديد الدنيا ما وزن حلقه منها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33 - 39‏]‏

‏{‏إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ‏(‏33‏)‏ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ‏(‏34‏)‏ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ ‏(‏35‏)‏ وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ ‏(‏36‏)‏ لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ ‏(‏37‏)‏ فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ‏(‏38‏)‏ وَمَا لا تُبْصِرُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّه كَانَ لا يُؤمِنُ بِاللهَّ العَظِيم وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ‏}‏ لا يطعم المسكين في الدنيا ولا يأمر أهله بذلك‏.‏ ‏{‏فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ‏}‏ قريب ينفعه ويشفع له‏.‏ ‏{‏وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ‏}‏ وهو صديد أهل النار، مأخوذ من الغسل، كأنه غسالة جروحهم وقروحهم‏.‏ قال الضحاك والربيع‏:‏ هو شجر يأكله أهل النار‏.‏ ‏{‏لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ‏}‏ أي‏:‏ الكافرون‏.‏ ‏{‏فَلا أُقْسِمُ‏}‏‏"‏لا‏"‏ رد لكلام المشركين، كأنه قال‏:‏ ليس كما يقول المشركون أقسم ‏{‏بِمَا تُبْصِرُونَ‏}‏ أي بما ترون وبما لا ترون‏.‏ قال قتادة‏:‏ أقسم بالأشياء كلها فيدخل فيه جميع ‏[‏المخلوقات‏]‏ والموجودات‏.‏ وقال‏:‏ أقسم بالدنيا والآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ ‏"‏ما تبصرون‏"‏ ما على وجه الأرض، و‏"‏ما لا تبصرون‏"‏ ما في بطنها‏.‏ وقيل‏:‏ ‏"‏ما تبصرون‏"‏ من الأجسام و‏"‏ما لا تبصرون‏"‏ من الأرواح‏.‏ وقيل‏:‏ ‏"‏ما تبصرون‏"‏ الإنس و‏"‏ما لا تبصرون‏"‏ الملائكة والجن‏.‏ وقيل النعم الظاهرة والباطنة‏.‏ وقيل‏:‏ ‏"‏ما تبصرون‏"‏ ما أظهر الله للملائكة واللوح والقلم‏:‏ و‏"‏ما لا تبصرون‏"‏ ما استأثر بعلمه فلم يطلع عليه أحدا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40 - 45‏]‏

‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ‏(‏40‏)‏ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ ‏(‏41‏)‏ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏42‏)‏ تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏43‏)‏ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ ‏(‏44‏)‏ لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّهُ‏}‏ يعني القرآن ‏{‏لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ َ‏}‏ أي تلاوة رسول كريم، يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏وَمَا هُوَ بِقَولِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَّا تُؤمِنُون وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ‏}‏1 قرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب‏:‏ ‏"‏يؤمنون ويذكرون‏"‏ بالياء فيهما، وقرأ الآخرون بالتاء، وأراد بالقليل نفي إيمانهم أصلا كقولك لمن لا يزورك‏:‏ قلما تأتينا‏.‏ وأنت تريد‏:‏ لا تأتينا أصلا‏.‏ ‏{‏تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ‏}‏ تخرَّص واختلق ‏{‏عَلَيْنَا‏}‏ محمد ‏{‏بَعْضَ الأقَاوِيلِ‏}‏ وأتى بشيء من عند نفسه‏.‏ ‏{‏لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ‏}‏ قيل ‏"‏مِنْ‏"‏ صلة مجازه‏:‏ لأخذناه وانتقمنا منه باليمين أي بالحق، كقوله‏:‏ ‏"‏كنتم تأتوننا عن اليمين‏"‏ ‏[‏الصافات - 28‏]‏ أي‏:‏ من قبل الحق‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لأخذناه بالقوة والقدرة‏.‏ قال الشماخ في عرابة ملك اليمن‏:‏

إذا ما رايةٌ رُفِعَت لمَجْدٍ *** تلقَّاها عُرَابَةُ باليَمِين

أي بالقوة، عبر عن القوة باليمين لأن قوة كل شيء في ميامنه‏.‏

وقيل‏:‏ معناه لأخذنا بيده اليمنى، وهو مثل معناه‏:‏ لأذللناه وأهنَّاه كالسلطان إذا أراد الاستخفاف ببعض من يريد يقول لبعض أعوانه‏:‏ خذ بيده فأقمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46 - 52‏]‏

‏{‏ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ‏(‏46‏)‏ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ‏(‏47‏)‏ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏48‏)‏ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ ‏(‏49‏)‏ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏50‏)‏ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ‏(‏51‏)‏ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي نياط القلب وهو قول أكثر المفسرين‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الحبل الذي في الظهر‏.‏ وقيل هو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب، فإذا انقطع مات صاحبه‏.‏ ‏{‏فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ‏}‏ مانعين يحجزوننا عن عقوبته، والمعنى‏:‏ أن محمدًا لا يتكلف الكذب لأجلكم مع علمه بأنه لو تكلفه لعاقبناه ولا يقدر أحد على دفع عقوبتنا عنه، وإنما قال‏:‏ ‏"‏حاجزين‏"‏ بالجمع وهو فعْل واحدٍ ردًا على معناه كقوله‏:‏ ‏"‏لا نفرق بين أحد من رسله‏"‏ ‏[‏البقرة - 285‏)‏‏.‏ ‏{‏وَإِنَّهُ‏}‏ يعني القرآن ‏{‏لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ أي لعظة لمن اتقى عقاب الله‏.‏ ‏{‏وَإِنَّا لَنَعلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ يوم القيامة يندمون على ترك الإيمان به‏.‏

‏{‏وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ‏}‏ أضافه إلى نفسه لاختلاف اللفظين‏.‏

‏{‏فَسَبِّح بِاسمِ رَبِّكَ العَظِيم‏}‏‏.‏

سورة المعارج

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 2‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ‏(‏1‏)‏ لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ‏}‏ قرأ أهل المدينة والشام‏:‏ ‏"‏سال‏"‏ بغير همز وقرأ الآخرون بالهمز، فمن همز فهو من السؤال، ومن قرأ بغير همز قيل‏:‏ هو لغة في السؤال، يقال‏:‏ سال يسال مثل خاف يخاف ‏[‏يعني‏]‏ سال يسال خفف الهمزة وجعلها ألفًا‏.‏

وقيل‏:‏ هو من السيل، والسايل واد من أودية جهنم، يروى ذلك عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، والأول أصح‏.‏

واختلفوا في الباء في قوله‏:‏ ‏"‏بعذاب‏"‏ قيل‏:‏ هي بمعنى ‏"‏عن‏"‏ كقوله‏:‏ ‏"‏فاسأل به خبيرًا‏"‏ ‏[‏الفرقان - 59‏]‏ ‏[‏أي عنه خبيرا‏]‏

ومعنى الآية‏:‏ سأل سائل عن عذاب ‏{‏وَاقِعٍ‏}‏ نازل كائن على من ينزل ولمن ذلك العذاب فقال الله مبينًا مجيبًا لذلك السائل‏:‏ ‏{‏لِلْكَافِرينَ‏}‏ وذلك أن أهل مكة لما خوفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب قال بعضهم لبعض‏:‏ مَنْ أهل هذا العذاب‏؟‏ ولمن هو‏؟‏ سلوا عنه محمدًا فسألوه فأنزل الله‏:‏ ‏"‏سأل سائل بعذاب واقع للكافرين‏"‏ أي‏:‏ هو للكافرين، هذا قول الحسن وقتادة‏.‏ وقيل‏:‏ الباء صلة ومعنى الآية‏:‏ دعا داع وسأل سائل عذابًا واقعًا للكافرين، أي‏:‏ على الكافرين، اللام بمعنى ‏"‏على‏"‏ وهو النضر بن الحارث حيث دعا على نفسه وسأل العذاب، فقال‏:‏ ‏"‏اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك‏"‏ الآية ‏(‏الأنفال - 32‏]‏ فنزل به ما سأل يوم بدر فقتل صبرًا، وهذا قول ابن عباس ومجاهد‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَهُ‏}‏ أي للعذاب ‏{‏دَافِعٌ‏}‏ مانع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3 - 4‏]‏

‏{‏مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ‏(‏3‏)‏ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي ذي السماوات، سماها معارج لأن الملائكة تعرج فيها‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ ذي الدرجات‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ذي الفواضل والنعم ‏[‏ومعارج‏:‏ الملائكة‏]‏‏.‏ ‏{‏تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ‏}‏ قرأ الكسائي ‏"‏يعرج‏"‏ بالياء، وهي قراءة ابن مسعود، وقرأ الآخرون ‏"‏تعرج‏"‏ بالتاء ‏{‏وَالرُّوحُ‏}‏ يعني جبريل عليه السلام ‏{‏إِلَيْهِ‏}‏ أي إلى الله عز وجل ‏{‏فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ من سني الدنيا لو صعد غير الملك وذلك أنها تصعد منتهى أمر الله تعالى من أسفل الأرض السابعة إلى منتهى أمر الله تعالى من فوق السماء السابعة‏.‏

روى ليث عن مجاهد أن مقدار هذا خمسون ألف سنة‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ لو سار بنو آدم من الدنيا إلى موضع العرش لساروا خمسين ألف سنة من سني الدنيا‏.‏

وقال عكرمة وقتادة‏:‏ هو يوم القيامة‏.‏ وقال الحسن أيضا‏:‏ هو يوم القيامة‏.‏ وأراد أن موقفهم للحساب حتى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا، ليس يعني به مقدار طوله هذا دون غيره لأن يوم القيامة له أول وليس له آخر لأنه يوم ممدود، ولو كان له آخر لكان منقطعًا‏.‏

وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال‏:‏ هو يوم القيامة يكون على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة‏.‏

أخبرنا أبو الفرج المظفر بن إسماعيل التميمي، أخبرنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي، أخبرنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ، حدثنا عبد الله بن سعيد، حدثنا أسد بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، عن دراج أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري قال قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة‏:‏ فما أطول هذا اليوم‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا‏"‏‏.‏

وقيل‏:‏ معناه لو ولي محاسبة العباد في ذلك اليوم غير الله لم يفرغ منه خمسين ألف سنة‏.‏ وهذا معنى قول عطاء عن ابن عباس ومقاتل‏.‏ قال عطاء‏:‏ ويفرغ الله منه في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا‏.‏

وروى محمد بن الفضل عن الكلبي قال‏:‏ يقول لو ولّيت حساب ذلك اليوم الملائكةَ والجنَّ والإنسَ وطوقُتهم محاسبتهم لم يفرغوا منه إلا بعد خمسين ألف سنة، وأنا أفرغ منها في ساعة ‏[‏واحدة‏]‏ من النهار‏.‏

وقال يمان‏:‏ هو يوم القيامة فيه خمسون موطنًا، كل موطن ألف سنة‏.‏ وفيه تقديم وتأخير كأنه قال‏:‏ ليس له دافع من الله ذي المعارج في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة تعرج الملائكة والروح إليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5 - 9‏]‏

‏{‏فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا ‏(‏5‏)‏ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ‏(‏6‏)‏ وَنَرَاهُ قَرِيبًا ‏(‏7‏)‏ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ‏(‏8‏)‏ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا‏}‏ يا محمد على تكذيبهم وهذا قبل أن يؤمر بالقتال‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا‏}‏ يعني العذاب ‏{‏وَنَرَاهُ قَرِيبًا‏}‏ لأن ما هو آت قريب‏.‏ ‏{‏يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ‏}‏ كعكر الزيت‏.‏ وقال الحسن‏:‏ كالفضة إذا أذيبت‏.‏ ‏{‏وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ‏}‏ كالصوف المصبوغ‏.‏ ولا يقال‏:‏ ‏"‏عهن‏"‏ إلا للمصبوغ‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ كالصوف المنفوش‏.‏ وقال الحسن‏:‏ كالصوف الأحمر وهو أضعف الصوف وأول ما تتغير الجبال تصير رملا مهيلا ثم عهنًا منفوشًا، ثم تصير هباءً منثورًا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10 - 16‏]‏

‏{‏وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ‏(‏10‏)‏ يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ‏(‏11‏)‏ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ‏(‏12‏)‏ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ‏(‏13‏)‏ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ ‏(‏14‏)‏ كَلا إِنَّهَا لَظَى ‏(‏15‏)‏ نزاعَةً لِلشَّوَى ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا‏}‏ قرأ البزي عن ابن كثير ‏"‏لا يسأل‏"‏ بضم الياء أي‏:‏ لا يُسأل حميم عن حميم، أي لا يقال له‏:‏ أين حميمك‏؟‏ وقرأ الآخرون بفتح الياء، أي‏:‏ لا يسأل قريب قريبًا لشغله بشأن نفسه‏.‏ ‏{‏يُبَصَّرُونَهُمْ‏}‏ يرونهم، وليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه من الجن والإنس، فيبصر الرجل أباه وأخاه وقرابته فلا يسأله، ويبصر حميمه فلا يكلمه لاشتغاله بنفسه‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ يتعارفون ساعة من النهار ثم لا يتعارفون بعده‏.‏

وقيل‏:‏ ‏"‏يبصرونهم‏"‏ يُعَرَّفونهم، أي‏:‏ يُعَرَّفُ الحميم حميمه حتى يعرفهُ ومع ذلك لا يسأله عن شأنه لشغله بنفسه‏.‏

وقال السدي‏:‏ يعرفونهم أما المؤمن فببياض وجهه وأما الكافر فبسواد وجهه ‏{‏يَوَدُّ الْمُجْرِمُ‏}‏ يتمنى المشرك ‏{‏لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ‏}‏ ‏{‏وَصَاحِبَتِهِ‏}‏ زوجته ‏{‏وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ‏}‏ عشيرته التي فصل منهم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ قبيلته‏.‏ وقال غيره‏:‏ أقرباؤه الأقربون ‏{‏الَّتِي تُؤْوِيهِ‏}‏ أي التي تضمه ويأوي إليها‏.‏ ‏{‏وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ‏}‏ ذلك الفداء من عذاب ‏[‏ربك‏]‏‏.‏ ‏{‏كَلا‏}‏ لا ينجيه من عذاب الله شيء ثم ابتدأ فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّهَا لَظَى‏}‏ وهي اسم من أسماء جهنم‏.‏ وقيل‏:‏ هي الدركة الثانية سميت بذلك لأنها تتلظى أي‏:‏ تتلهب‏.‏ ‏{‏نزاعَةً لِلشَّوَى‏}‏ قرأ حفص عن عاصم ‏"‏نزاعة‏"‏ نصب على الحال والقطع، وقرأ الآخرون بالرفع أي هي نزاعة للشوى، وهي ‏[‏الأطراف‏]‏ اليدان والرجلان ‏[‏وسائر‏]‏ الأطراف‏.‏ قال مجاهد‏:‏ لجلود الرأس‏.‏ وروى إبراهيم بن مهاجر عنه‏:‏ ‏[‏تنزع‏]‏ اللحم دون العظام‏.‏

قال مقاتل‏:‏ تنزع النار الأطراف فلا تترك لحمًا ولا جلدًا‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ تنزع الجلد واللحم عن العظم‏.‏

وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس‏:‏ العصب والعقب‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ لأمِّ الرأس تأكل الدماغ كله ثم يعود كما كان، ثم تعود لأكله فذلك دأبها‏.‏

وقال قتادة‏:‏ لمكارم خلقه وأطرافه‏.‏ قال أبو العالية‏:‏ لمحاسن وجهه‏.‏

وقال ابن ‏[‏جرير‏]‏ ‏"‏الشوى‏"‏ جوارح الإنسان ما لم يكن مقتلا يقال‏:‏ رمى فأشوى إذا أصاب الأطراف ولم يصب المقتل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17 - 21‏]‏

‏{‏تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ‏(‏17‏)‏ وَجَمَعَ فَأَوْعَى ‏(‏18‏)‏ إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ‏(‏19‏)‏ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ‏(‏20‏)‏ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏تَدْعُوا‏}‏ أي‏:‏ النار إلى نفسها ‏{‏مَنْ أَدْبَرَ‏}‏ على الإيمان ‏{‏وَتَوَلَّى‏}‏ عن الحق فتقول إليَّ يا مشرك إليَّ يا منافق إليَّ إليَّ‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ تدعو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب‏.‏ حُكي عن الخليل‏:‏ أنه قال‏:‏ تدعو أي تعذب‏.‏ وقال‏:‏ قال أعرابي لآخر‏:‏ دعاك الله أي عذبك الله‏.‏ ‏{‏وَجَمَعَ‏}‏ أي‏:‏ جمع المال ‏{‏فَأَوْعَى‏}‏ ‏[‏أمسكه‏]‏ في الوعاء ولم يُؤدِ حق الله منه‏.‏ ‏{‏إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا‏}‏ روى السدي عن أبي صالح عن ابن عباس ‏[‏قال‏]‏ ‏"‏الهلوع‏"‏ الحريص على ما لا يحل له‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ شحيحًا‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ ضجورًا‏.‏ وقال الضحاك والحسن‏:‏ بخيلا‏.‏ وقال قتادة‏:‏ جزوعًا‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ضيق القلب‏.‏ والهلع‏:‏ شدة الحرص وقلة الصبر‏.‏ وقال عطية عن ابن عباس‏:‏ تفسيره ما بعده وهو قوله‏:‏ ‏{‏إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا‏}‏ أي‏:‏ إذا أصابه الفقر لم يصبر، وإذا أصاب المال لم ينفق‏.‏ قال ابن كيسان‏:‏ خلق الله الإنسان يحب ما يسره ويهرب مما يكره، ثم تعبده بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكره‏.‏ ثم استثنى فقال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22 - 33‏]‏

‏{‏إِلا الْمُصَلِّينَ ‏(‏22‏)‏ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ ‏(‏23‏)‏ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ‏(‏24‏)‏ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ‏(‏25‏)‏ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏26‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ‏(‏27‏)‏ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ‏(‏28‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ‏(‏29‏)‏ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ‏(‏30‏)‏ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ‏(‏31‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ‏(‏32‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏إِلا الْمُصَلِّينَ‏}‏ استثنى الجمع من الوحدان لأن الإنسان في معنى الجمع ‏[‏كقوله‏:‏ ‏"‏إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا‏"‏‏.‏ ‏{‏الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ‏}‏ يقيمونها في أوقاتها يعني الفرائض‏.‏

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة، حدثنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله بن محمود، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن ابن لهيعة، حدثني يزيد بن أبي حبيب‏:‏ أن أبا الخير أخبره قال‏:‏ سألنا عقبة بن عامر عن قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏الذين هم على صلاتهم دائمون‏"‏ أهم الذين يصلون أبدًا‏؟‏ قال‏:‏ لا ولكنه إذا صلى لم يلتفت عن يمينه ولا عن شماله ولا من خلفه‏.‏ ‏{‏وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ‏}‏ قرأ حفص عن عاصم ويعقوب‏:‏ ‏"‏بشهاداتهم‏"‏ على الجمع، وقرأ الآخرون ‏[‏بشهاداتهم‏]‏ ‏[‏على التوحيد‏]‏ ‏{‏قَائِمُونَ‏}‏ أي يقومون فيها بالحق أو لا يكتمونها ولا يغيرونها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34 - 39‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏34‏)‏ أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ‏(‏35‏)‏ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ‏(‏36‏)‏ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ‏(‏37‏)‏ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ‏(‏38‏)‏ كَلا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ أي‏:‏ فما بال الذين كفروا، كقوله‏:‏ ‏"‏فما لهم عن التذكرة معرضين‏"‏ ‏[‏المدثر - 49‏]‏ ‏{‏قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ‏}‏ مسرعين مقبلين إليك ماديّ أعناقهم ومديمي النظر إليك متطلعين نحوك‏.‏

نزلت في جماعة من الكفار كانوا يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم يستمعون كلامه ويستهزئون به ويكذبونه، فقال الله تعالى‏:‏ ما لهم ينظرون إليك ويجلسون عندك وهم لا ينتفعون بما يستمعون‏.‏ ‏{‏عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ‏}‏ حلقًا وفرقًا، و‏"‏العزين‏"‏ جماعات في تفرقة، واحدتها عِزَة‏.‏ ‏{‏أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ معناه أيطمع كل رجل منهم أن يدخل جنَّتي كما يدخلها المسلمون ويتنعم فيها وقد كذَّب نبيي‏؟‏ ‏{‏كَلا‏}‏ لا يدخلونها‏.‏ ثم ابتدأ فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة، نبه الناس على أنهم خلقوا من أصل واحد وإنما يتفاضلون ويستوجبون الجنة بالإيمان والطاعة‏.‏

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا موسى بن محمد بن علي، حدثنا جعفر بن محمد الفريابي، حدثنا صفوان بن صالح، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا جرير بن عثمان الرحبي، عن عبد الرحمن بن ميسرة، عن جبير بن نفير، عن بسر بن جحاش ‏[‏القرشي‏]‏ قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم وبصق يومًا في كفه ووضع عليها إصبعه فقال‏:‏ يقول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ابن آدم أنىَّ تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سوَّيتُك وعدلتُك ومشيت بين بردين، وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة‏"‏

وقيل‏:‏ معناه إنا خلقناهم ‏[‏من أجل ما يعملون وهو الأمر والنهي والثواب والعقاب‏.‏

وقيل‏:‏ ‏"‏ما‏"‏ بمعنى ‏"‏من‏"‏ مجازه‏:‏ إنا‏]‏ خلقناهم ممن يعلمون ويعقلون لا كالبهائم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40 - 44‏]‏

‏{‏فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ‏(‏40‏)‏ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ‏(‏41‏)‏ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ‏(‏42‏)‏ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ‏(‏43‏)‏ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ‏}‏ يعني مشرق كل يوم من أيام السنة ومغربه ‏{‏إِنَّا لَقَادِرُونَ‏}‏ ‏{‏عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ‏}‏ على أن نخلق أمثل منهم وأطوع لله ‏[‏ورسوله‏]‏ ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ‏}‏ ‏{‏فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا‏}‏ في باطلهم ‏{‏وَيَلْعَبُوا‏}‏ في دنياهم ‏{‏حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ‏}‏ نسختها آية القتال‏.‏ ‏{‏يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ‏}‏ من القبور ‏{‏سِرَاعًا‏}‏ إلى إجابة الداعي ‏{‏كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ‏}‏ قرأ ابن عامر ‏[‏وابن عباس‏]‏ وحفص‏:‏ ‏"‏نُصُبٍ‏"‏ بضم النون والصاد، وقرأ الآخرون بفتح النون وسكون الصاد يعنون إلى شيء منصوب، يقال‏:‏ فلان نُصْبَ عيني‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ إلى عَلَمٍ وراية‏.‏ ومن قرأ بالضم، قال مقاتل والكسائي‏:‏ يعني إلى أوثانهم التي كانوا يعبدونها من دون الله ‏[‏كقوله‏:‏ ‏"‏وما ذبح على النصب‏"‏ ‏[‏المائدة - 3‏]‏ قال الحسن‏:‏ يسرعون إليها أيهم يستلمها أولا ‏{‏يُوفِضُونَ‏}‏ يسرعون‏.‏ ‏{‏خَاشِعَةً‏}‏ ذليلة خاضعة ‏{‏أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ‏}‏ يغشاهم هوان ‏{‏ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ‏}‏ يعني يوم القيامة‏.‏

سورة نوح

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 6‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏1‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏2‏)‏ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ‏(‏3‏)‏ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏4‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا ‏(‏5‏)‏ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ‏}‏ أي‏:‏ بأن أنذر قومك ‏{‏مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ المعنى‏:‏ إنا أرسلناه لينذرهم بالعذاب إن لم يؤمنوا‏.‏ ‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ‏}‏ أنذركم وأبين لكم ‏[‏رسالة الله بلغة تعرفونها‏]‏‏.‏ ‏{‏أَنِ اعبُدُوا اللَّهَ واتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ‏}‏‏"‏من‏"‏ صلة، أي‏:‏ يغفر لكم ذنوبكم‏.‏ وقيل‏:‏ يعني ما سلف من ذنوبكم إلى وقت الإيمان، وذلك بعض ذنوبهم ‏{‏وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى‏}‏ أي‏:‏ يعافيكم إلى منتهى آجالكم فلا يعاقبكم ‏{‏إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ يقول‏:‏ آمنوا قبل الموت تسلموا ‏[‏من العذاب‏]‏ فإن أجل الموت إذا جاء لا يؤخر ولا يمكنكم الإيمان‏.‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا‏}‏ نفارًا وإدبارًا عن الإيمان ‏[‏والحق‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7 - 11‏]‏

‏{‏وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ‏(‏8‏)‏ ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ‏(‏9‏)‏ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ‏(‏10‏)‏ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ‏}‏ إلى الإيمان بك ‏{‏لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ‏}‏ لئلا يسمعوا دعوتي ‏{‏وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ‏}‏ غطوا بها وجوههم لئلا يروني ‏{‏وَأَصَرُّوا‏}‏ على كفرهم ‏{‏وَاسْتَكْبَرُوا‏}‏ عن الإيمان بك ‏{‏اسْتِكْبَارًا‏}‏ ‏{‏ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا‏}‏ معلنا بالدعاء‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ بأعلى صوتي‏.‏ ‏{‏ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ‏}‏ كررت الدعاء مُعلنًا ‏{‏وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد الرجل بعد الرجل أكلمه سرًا بيني وبينهُ أدعوه إلى عبادتك وتوحيدك‏.‏ ‏{‏فَقُلتُ استَغفِرُوا رَبَّكُم إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا‏}‏ وذلك أن قوم نوح لما كذبوه زمانًا طويلا حبس الله عنهم المطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة، فهلكت أموالهم ومواشيهم، فقال لهم نوح‏:‏ استغفروا ربكم من الشرك، أي استدعوا المغفرة بالتوحيد، يرسل السماء عليكم مدرارا‏.‏

وروى مطرف عن الشعبي أن عمر رضي الله تعالى عنه خرج يستسقي بالناس، فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فقيل له‏:‏ ما سمعناك استسقيت‏؟‏ فقال‏.‏ طلبت الغيث ‏[‏بمجاديح‏]‏ السماء التي يستنزل بها المطر، ثم قرأ‏:‏ ‏"‏استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا‏"‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12 - 19‏]‏

‏{‏وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ‏(‏12‏)‏ مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ‏(‏13‏)‏ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ‏(‏14‏)‏ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ‏(‏15‏)‏ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ‏(‏16‏)‏ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا ‏(‏17‏)‏ ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ‏(‏18‏)‏ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِسَاطًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ‏}‏ قال عطاء‏:‏ يكثر أموالكم وأولادكم ‏{‏وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا‏}‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ لا ترون لله عظمة‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ لا تخافون الله حق عظمته‏.‏

و‏"‏الرجاء‏"‏ بمعنى الخوف، و‏"‏الوقار‏"‏ العظمة اسم من التوقير وهو التعظيم‏.‏

قال الحسن‏:‏ لا تعرفون لله حقًا ولا تشكرون له نعمة‏.‏

قال ابن كيسان‏:‏ ما لكم لا ترجون في عبادة الله أن يثيبكم على توقيركم إياه خيرًا‏.‏ ‏{‏وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا‏}‏ تارات حالا بعد حالٍ نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى تمام الخلق‏.‏ ‏{‏أَلَم تَرَوا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا‏}‏ قال الحسن‏:‏ يعني في السماء الدنيا كما يقال‏:‏ أتيت بني تميم، وإنما أتى بعضهم، وفلان متوار في دور بني فلان وإنما هو في دار واحدة‏.‏ وقال عبد الله بن عمرو‏:‏ إن الشمس والقمر وجوههما إلى السماوات، وضوء الشمس ونور القمر فيهن وأقفيتهما إلى الأرض‏.‏ ويروي هذا عن ابن عباس‏.‏

‏{‏وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا‏}‏ مصباحًا مضيئًا‏.‏ ‏{‏وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا‏}‏ أراد مبدأ خلق آدم خلقه من الأرض والناس ولده، وقوله‏:‏ ‏"‏نباتا‏"‏ اسم جعل في موضع المصدر أي إنباتًا قال الخليل‏:‏ مجازه‏:‏ أنبتكم فنبتُّم نباتًا‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا‏}‏ بعد الموت ‏{‏وَيُخْرِجُكُمْ‏}‏ منها يوم البعث أحياء ‏{‏إِخْرَاجًا‏}‏ ‏{‏وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِسَاطًا‏}‏ فرشها وبسطها لكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20 - 23‏]‏

‏{‏لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا ‏(‏20‏)‏ قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا ‏(‏21‏)‏ وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ‏(‏22‏)‏ وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا‏}‏ طرقًا واسعة‏.‏ ‏{‏قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي‏}‏ لم يجيبوا دعوتي ‏{‏وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا‏}‏ يعني‏:‏ اتبع السفلةُ والفقراءُ القادةَ والرؤساءَ الذين لم يزدهم كثرة المال والولد إلا ضلالا في الدنيا وعقوبة في الآخرة‏.‏ ‏{‏وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا‏}‏ أي كبيرًا عظيمًا يقال‏:‏ كبير وكبار بالتخفيف كُبَّار بالتشديد، كلها بمعنى واحد، كما يقال‏:‏ أمر عجيب وعجَاب وعجَّاب بالتشديد وهو أشد في المبالغة‏.‏

واختلفوا في معنى مكرهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ قالوا قولا عظيمًا‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ افتروا على الله وكذبوا رسله وقيل‏:‏ منع الرؤساء أتباعهم عن الإيمان بنوح ‏[‏وحرضوهم‏]‏ على قتله‏.‏ ‏{‏وَقَالُوا‏}‏ لهم ‏{‏لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ‏}‏ أي لا تتركوا عبادتها ‏{‏وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا‏}‏ قرأ أهل المدينة بضم الواو والباقون بفتحها ‏{‏وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا‏}‏ هذه أسماء آلهتهم‏.‏

قال محمد بن كعب‏:‏ هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح فلما ماتوا كان لهم أتباع يقتدون بهم ويأخذون بعدهم بأخذهم في العبادة فجاءهم إبليس وقال لهم‏:‏ لو صورتم صورهم كان أنشط لكم وأشوق إلى العبادة، ففعلوا ثم نشأ قوم بعدهم فقال لهم إبليس‏:‏ إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم فعبدوهم، فابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك‏.‏

وسميت تلك الصور بهذه الأسماء لأنهم صوروها على صور أولئك القوم من المسلمين‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام عن ابن جريج وقال عطاء عن ابن عباس‏:‏ صارت الأوثان التي كانت تعبد في قوم نوح ‏[‏تعبد‏]‏ في العرب ‏[‏بعده‏]‏ أما وَدّ فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يَغُوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبا وأما يَعُوق فكانت لهمدان، وأما نَسْر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع ذكره في تفسيره‏.‏

وروى سفيان عن موسى عن محمد بن قيس قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا‏"‏ قال‏:‏ كانت أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم‏:‏ أن انصبوا فى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عُبِدَتْ‏.‏

وروي عن ابن عباس‏:‏ أن تلك الأوثان دفنها الطوفان وطمها التراب، فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب، وكانت للعرب أصنام أخر فاللات كانت لثقيف، والعزى لسليم وغطفان وجشم ومناة لقديد، وإساف ونائلة وهُبل لأهل مكة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24 - 25‏]‏

‏{‏وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالا ‏(‏24‏)‏ مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا‏}‏ أي‏:‏ ضل بسبب الأصنام كثير من الناس كقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏رب إنهن أضللن كثيرا من الناس‏"‏ ‏[‏إبراهيم - 36‏]‏ وقال مقاتل‏:‏ أضل كبراؤهم كثيرًا من الناس ‏{‏وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالا‏}‏ هذا دعاء عليهم بعدما أعلم الله نوحًا أنهم لا يؤمنون، وهو قوله‏:‏ ‏"‏أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن‏"‏ ‏[‏هود - 36‏]‏‏.‏ ‏{‏مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ من خطيئاتهم و‏"‏ما‏"‏ صلة، وقرأ أبو عمرو‏:‏ ‏"‏خطاياهم‏"‏ وكلاهما جمع خطيئة ‏{‏أُغْرِقُوا‏}‏ بالطوفان ‏{‏فَأُدْخِلُوا نَارًا‏}‏ قال الضحاك‏:‏ هي في حالة واحدة في الدنيا يغرقون من جانب ويحترقون من جانب، وقال مقاتل‏:‏ فأدخلوا نارًا في الآخرة ‏{‏فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا‏}‏ لم يجدوا أحدًا يمنعهم من عذاب الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26 - 28‏]‏

‏{‏وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا ‏(‏27‏)‏ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا‏}‏ أحدًا يدور في الأرض فيذهب ويجيء أصله من الدوران وقال ‏[‏ابن قتيبة‏]‏ إن أصله من الدار، أي‏:‏ نازل دار‏.‏ ‏{‏إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ‏}‏ قال ابن عباس، والكلبي ومقاتل‏:‏ كان الرجل ينطلق بابنه إلى نوح فيقول‏:‏ احذر هذا فإنه كذاب، وإن أبي حذرنيه فيموت الكبير وينشأ الصغير عليه ‏{‏وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا‏}‏ قال محمد بن كعب، ومقاتل، والربيع، وغيرهم‏:‏ إنما قال نوح هذا حين أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم وأعقم أرحام نسائهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة‏.‏ ‏[‏وقيل سبعين سنة‏]‏ وأخبر الله نوحا أنهم لا يؤمنون ولا يلدون مؤمنًا فحينئذ دعا عليهم نوح فأجاب الله دعاءه، وأهلكهم كلهم ولم يكن فيهم صبي وقت العذاب لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏"‏وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم‏"‏ ‏[‏الفرقان - 37‏]‏ ولم يوجد التكذيب من الأطفال‏.‏ ‏{‏رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ‏}‏ واسم أبيه‏:‏ لمك بن متوشلخ، واسم أمه‏:‏ سمحاء بنت أنوش، وكانا مؤمنين ‏[‏وقيل اسمها هيجل بنت لاموش بن متوشلخ فكانت بنت عمه‏]‏ ‏{‏وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ‏}‏ داري ‏{‏مُؤْمِنًا‏}‏ وقال الضحاك والكلبي‏:‏ مسجدي‏.‏ وقيل‏:‏ سفينتي ‏{‏وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ هذا عام في كل من آمن بالله وصدَّق الرسل ‏{‏وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا‏}‏ هلاكًا ودمارًا فاستجاب الله دعاءه فأهلكهم‏.‏